“كتاب يسوع المسيح إبن داود إبن إبراهيم” (متى 1: 1)
1. إفتتح القدّيس متى إنجيله بنسب يسوع إلى العائلة البشريّة للإعلان أنّه هو المسيح المنتظر “من سلالة داود”، وفقًا لنبوءات العهد القديم، وأنّه محقّق وعد الخلاص بكونه “إبن ابراهيم”. وأراد أن يكشف أنّ ابن الله هذا هو أيضًا إنسان بطبيعته البشريّة، بل هو موسى الجديد والمعلّم الأوحد للشريعة.
نجد في الإنجيل نسبين ليسوع: الأوّل انحداريّ للقدّيس متّى: من إبراهيم إلى يوسف رجل مريم التي منها ولد يسوع الذي يدعى المسيح (متى 1/ 16)، والثاني تصاعديّ للقدّيس لوقا: من يوسف إلى آدم الذي هو من الله (لوقا 3/ 23-38). متّى قصد التأكيد أنّ يسوع هو المسيح المنتظر من سلالة داود، ومحقّق مواعيد الله الخلاصيّة لابراهيم، كما رأينا. أمّا لوقا الذي يكمّل رؤية متّى، فيبيّن أنّ يسوع هو آدم الجديد، وأبو كلّ البشريّة المفتداة.
2. يتفرّد لوقا بالحديث عن تسجيل يسوع مع أبيه وأمّه، في إحصاء المعمورة الذي أمر به أغوسطس قيصر، فاضطرّ يوسف ومريم الحامل بيسوع على السفر من الناصرة إلى مدينة داود للاكتتاب. في هذه الأثناء ولد الطفل في بيت لحم وسجّل في أسرة يوسف ومريم: “يسوع بن يوسف الذي من الناصرة” (لو 2: 1-7). هذا يعلن بوضوح انتماء يسوع إلى الجنس البشريّ، إنسانًا بين الناس، من سكّان هذا العالم، خاضعًا للشريعة وللمؤسّسات المدنيّة، ولكن مخلّصًا للعالم وفاديًا للإنسان أيضًا. “باكتتابه في الاحصاء المسكونيّ مع البشريّة جمعاء، إنّما أراد أن يُحصي الناس أجمعين في سفر الأحياء، ويسجّل في السموات مع القدّيسين كلّ الذين يؤمنون به” (أوريجانوس، عظة 11 في القدّيس لوقا؛ أنظر البابا يوحنّا بولس الثاني: حارس الفادي، 9).
3. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، مجدّدين إيماننا ورجاءنا بالمسيح، عمّانوئيل “الله معنا”، الذي يتضامن معنا وبخاصّة مع كلّ اللبنانيّين في محنتهم الشديدة، ويدعونا لنكون نحن والجميع متضامنين ومتعاضدين لكي لا يسقط أحد في الطريق.
وفيما أرحّب بكم جميعًا، أوجّه تحيّةً خاصّة إلى “تجمّع يسوع فرحي” الذي أنشأه عزيزنا المرحوم المونسينيور توفيق بو هدير. وسيقيم هذا “التجمّع” في نهاية القدّاس الإلهي إحتفالًا يُطلق فيه “قرصًا مدمّجًا” يضمّ باقةً من تراتيل “يسوع فرحي”، وفاءً لذكرى المونسينيور توفيق، ونحن نصلّي مع والدته وشقيقيه وكل الاصدقاء لراحة نفسه في هذه الذبيحة الإلهيّة، راجين أن تكون وفاتُه ميلادَه في السماء.
4. لنسب يسوع إلى العائلة البشريّة مفهوم لاهوتيّ وروحيّ مزدوج: الأوّل أنّ يسوع يشركنا في البركات والوعود التي تحقّقت فيه كإبن داود وابن ابراهيم. فكلّ مولود من سلالة البشر يرث هذه البركات والوعود الإلهيّة. والثاني، أنّ يسوع يتضامن معنا ويشاركنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة (عب 4: 15). يتضامن مع كلّ إنسان لكي يرفعه إلى مستوى البنوّة الإلهيّة، بحسب قول القدّيس امبروسيوس: “تأنّس الله، ليؤلّه الإنسان”.
5. أمّا مجموعة الأجيال الثلاثة فترمز إلى مسيرة شعب الله نحو المسيح، الذي هو محور البشريّة والتاريخ. المجموعة الأولى من ابراهيم إلى داود هي مسيرة الإيمان التي انطلقت من ابراهيم حتّى تنظيم الملوكيّة مع داود؛ المجموعة الثانية من داود إلى سبي بابل هي رمز الخطيئة فالتهجير مع بيتشابع زوجة أوريّا، التي بعد أن ضاجعها داود وحبلت منه قتل زوجها (2 صموئيل 11)، المجموعة الثالثة من سبي بابل إلى المسيح هي رمز وعد الله الذي ما زال قائمًا، لأنّ الله صادق في وعده وأمانته إلى الأبد، حتّى تحقّق الوعد في المسيح.
6. الإله صار إنسانًا، عبر مسيرة الأجيال، لكي يعيد للإنسان، كل انسان، إنسانيّته وصورة الله فيه، فتسطلح كلّ الأجيال البشريّة. إنّ الإله يسوع المسيح المتجسّد هو بمثابة نقطة الدائرة للأجيال جميعها. وبالتالي هو متّحد بكلّ إنسان. “لقد إشتغل بيديّ إنسان، وفكّر بعقل إنسان، وعمل بإرادة إنسان، وأحبّ بقلب إنسان. بميلاده أصبح واحدًا منّا، شبيهًا بنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة” (الكنيسة في عالم اليوم، 22).
7. يا ليت المسؤولين عندنا والنافذين يعودون إلى إنسانيّتهم، لكي يخلّصوا لبنان وشعبه متّبعين سلوكًا سياسيًّا ووطنيًّا إيجابيًّا يَلتقي مع المساعي الدُوَليّةِ ويُنفِّذُ قراراتِ الشرعيّة الدوليّةَ، ومتوقّفين عن نهجِ الثأرِ السياسيِّ والحقدِ الشخصيِّ والاستهتارِ المطلَقِ بالمواطنين كأنّهم أدواتُ اقتتالٍ. مطلوب منهم جميعًا، في الأساس، الإقرار بخطأهم، والقيام بفعل توبة. أمّا اعتبارهم أن الخطأ عند غيرهم، فهذا ضرب من الكبرياء الذي يقتل.
أليس من المعيبِ إنَّ يصبحَ انعقادُ مجلسِ الوزراء مطلبًا عربيًّا ودُوليًّا بينما هو واجبٌ لبنانيٌّ دستوريٌّ يُلزِم الحكومة؟ فكيف تمعن فئة ٌ نافذة في تعطيله باسم الميثاقيّة التي تُشوّه بينما هي ارتقاءٌ بالتجربة التاريخيّة للعيش الواحد بين المكوّنات اللبنانيّة، وقاعدةٌ لتأسيس دولة تحقّق أماني اللبنانيّين جميعًا وتُبعدهم عن المحاور والصراعات؛ وهي أساسٌ لبناء علاقات الدولة مع الخارج، المدعوّ إلى الإعتراف بخصوصيّة لبنان.
بعدم إنعقاد مجلس الوزراء، تتعطّل السلطة الإجرائيّة، ومعها تتعطل الحركة الإقتصاديّة بكلّ قطاعاتها، والحركة الماليّة، والحياة المصرفيّة. وبنتيجتها يفتقر الشعب أكثر فأكثر. أهذا ما يقصده معطّلو انعقاد مجلس الوزراء؟
8. إنّنا ما زلنا، مع كل اللبنانيين ومع كل ذوي الارادة الصالحة في لبنان والخارج، ننتظر جلاءَ الحقيقةِ في تفجيرِ مرفأِ بيروت، وندعو إلى وقفِ التشكيكِ المتصاعِد بعملِ القضاء. لا يجوزُ أن نَخلِطَ بين القضاة. فإذا كان اتهامُ القاضي الفاسدِ بالفساد طبيعيًا، فلمَ اتهامُ القاضي النزيهِ بالانحراف، والمستقيمِ بالتسيُّس، والشجاعِ بالتهوّر، والمصمِّم بالمنتقِم، والصامتِ بالغموض، والعادلِ بالاستنسابيّ؟ كأن الهدفَ ضربُ عملِ القضاء ككلٍّ وتحويلُ المجتمعِ إلى غابةِ إجرامٍ مُتنقِّلٍ دونما حسيبٍ أو رقيب.
إننا ندعو إلى استمرارِ التحقيقِ القضائيِّ، وأن تَسقُطَ الحَصاناتُ عن الجميع، ولو بشكلٍ محصورٍ وخاصٍّ بجريمةِ المرفأ، ليَتمكّنَ القضاءُ العدليُّ الذي تَقدّمَ كفايةً من أن يَستمعَ إلى الجميعِ من دونِ استثناءٍ، أي إلى كلِّ من يَعتبره المحقِّقُ معنيًّا وشاهدًا ومتّهمًا مهما كان موقِعُه، ومهما علا إذا كان كلُّ مواطنٍ تحت سلطةِ القانونِ، فكم بالحريّ بالمسؤولين الّذين تَولّوا ويتولّون مناصبَ ومواقعَ وحقائبَ وإداراتٍ وأجهزةً في هذه المراحلِ الملتَبِسة؟
9. نصلّي إلى الله لكي يستلهم القيّمون على خدمة عدالة الأرض، أنوار عدالة السماء والإنصاف. ولترتفع من أرضنا كل حين أناشيد المجد والتسبيح للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.