“اذهبوا أنتم أيضًا إلى كرمي” (متى 20: 4)
1. في ضوء هذا المثل الإنجيلي يسعدنا أن نحتفل مع حبريّة Opus Dei بيوبيل وجودها في لبنان الفضّي. فنشكرالله معها على ما أغدق، طيلة الخمس وعشرين سنة، من نعم بواسطة خدمتها المتنوّعة في مراكزها الخمسة في بيروت وصربا وجبيل ومعاد وبشرّي. فكم من نفوس استرشدت بكلمة الله والتنشئة الروحيّة واللاهوتيّة، وأخرى عادت إلى الله بالتوبة، وأخرى تعزّت في مضايقها. فيطيب لي أن أحيّي كلّ أعضائها، الآباء والعلمانيّين المؤمنين بالمسيح، وعلى رأسهم الأب دومينيك حلو، النائب في لبنان لحضرة المونسنيور Prélat Fernando Ocáriz Braña
2.إنّ رسالة حبريّة Opus Dei، كما حدّدها مؤسّسها القدّيسEscrivá Josémaria ، هي تقديس الذات في العمل اليوميّ، والحياة العائليّة، والعلاقات الإجتماعيّة. ولها هدف واحد هو السهر كي يكون في العالم رجال ونساء، من كلّ عرق ولون وحالة اجتماعيّة يجتهدون في خدمة الله والبشريّة في عملهم اليوميّ ومن خلاله وسط واقعات العالم ومصالحه.
3. في المثل الإنجيليّ، خرج ربّ البيت ليستأجر فعلة لكرمه، خمس مرّات: باكرًا، وعمد الساعة التاسعة، وعند الظهيرة، ثمّ عند الثالثة، وأخيرًا عند الخامسة. هذه الساعات تعني تغطية كلّ أوقات العمل في النهار. وتعني أيضًا مختلف الأعمار: الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة، وما لكلّ عمر وحالة نوع من العمل المادي والروحي والمعنوي والأخلاقي (الإرشاد الرسولي للقديس البابا يوحنا بولس الثاني: العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 45).
4. كلّ هذا يعني أنّ شريعة العمل واجبة على الجميع، في كلّ ساعات النهار. الكنيسة مقتنعة من أنّ العمل يشكّل بعدًا أساسيًّا لوجود الإنسان على الأرض. وما يثبت ذلك هو تراث العلوم المتعدّدة ، والموجّهة كلّها إلى الإنسان: كالأنتروبولوجيا (علم الإنسان)، وبالِيوءُنتولوجيا (علم المتحجّرات)، والتاريخ، والسوسيولوجيا (علم الإجتماع)، والبسيكولوجيا (علم النفس)، وسواها. (الرسالة العامّة للقديس البابا يوحنّا بولس الثاني: ممارسة العمل،4).
5. تستمدّ الكنيسة اقتناعها هذا من كلمة الله الموحاة، وهو في الوقت عينه اقتناع العقل وبالتالي اقتناع الإيمان. والسبب هو أنّ الكنيسة تؤمن بالإنسان، وتفكّر بالإنسان وتتوجّه إلى الإنسان.
أجل، تجد الكنيسة في الصفحات الأولى من سفر التكوين أنّ الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، تسلّم من الله السلطة على الأرض لكي يحرثها ويُخضعها ويعيش من ثمارها وفقًا لرسومه ووصياه (راجع تك 1/27-28؛ 3/19).
6. ربّنا يسوع المسيح خضع هو أيضًا لشريعة العمل في حقل النجارة مع أبيه يوسف، قبل أن يبدأ رسالته العلنيّة بعمر ثلاثين سنة. فعندما بدأها بكلام الحكمة وإجراء آيات الشفاء كان معروفًا أنّه “إبن النجّار، وأمّه تُدعى مريم” (متى 13: 55). مارس النجارة في بحر الأسبوع، وفي كلّ سبت كان يتردّد إلى المجمع، وكلّ سنة إلى أورشليم في عيد الفصح.
ومعروف عن بولس الرسول أنّه كان يكسب عيشه من صناعة الخيم (أعمال 18: 1-3). وهو الذي حذّر أهل تسالونيكي من الكسل، حتى قال: “من لا يريد أن يعمل، فليس له أن يأكل” (2 تس 3: 10).
7. للكنيسة تعليم واسع حول العمل، بدءًا من البابا لاون الثالث عشر في رسالته العامّة الشهيرة “الشؤون الحديثة” (15 أيّار 1891)، مرورًا بالرسالة العامّة للبابا بيوس الحادي عشر “في السنة الأربعين” لرسالة “الشؤون الحديثة (1931)، وبالرسالة الصوتيّة للمكرّم البابا بيوس الثاني عشر في الذكرى الخمسين لرسالة الشؤون الحديثة (1941)، فإلى الرسالة العامّة للقدّيس البابا بولس السادس “في الذكرى الثمانين” للشؤون الحديثة (1971)، وصولًا إلى الرسالة العامّة للقدّيس البابا يوحنا بولس الثاني “بممارسة العمل” (1981)، بمناسبة مرور مئة سنة على صدور “الشؤون الحديثة”.
8. كلّ هذه الرسائل العامّة تعيد إلى عالم اليوم قيمة العمل وقدسيّته، أيًّا يكن نوعه، يدويًّا، فكريًّا، روحيًّا، ثقافيًّا، تعليميًّا، تربويًّا، سياسيًّا، ديبلوماسيًّا، إداريًّا، قضائيًّا، عسكريًّا، اقتصاديًّا، تجاريًّا، ماليًّا، سياحيًّا، عائليًّا، اجتماعيًّا، إنسانيًّا. كلّ هذه الأنواع وسواها من العمل نحن مدعوّون، بحسب روحانيّة القدّيس Josémarìa، مؤسّس حبريّة Opus Dei، لنقّدس عملنا ونتقدّس به، بواسطة كلام الله ووصاياه ورسومه، وقوّة نعمته، وأنوار روحه القدّوس. ما يعني أن يكون عملنا صالحًا، وعادلًا، وشفافًا، ومخلصًا، ومحبًّا، وبنّاءً، وساعيًا إلى تأمين الخير العام، ونشيدًا لتمجيدالله، وبناءً لمجتمع أكثر إنسانيّة وحضارة. هذه الروحانيّة التي تعمل على نشرها وإحيائها حبريّة Opus Dei، تسهر من خلالها على تعزيز الإدراك العميق للدعوة الشاملة للقداسة، بين الرجال والنساء، في مختلف أعمالهم وحالاتهم. هذه الدعوة الشاملة خصّص لها آباء المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثانيّ فصلًا في الدستور العقائديّ “في الكنيسة”.
9. كلّ عمل بمختلف أنواعه شاق. لكنّه دائمًا لخير الإنسان، إذ يجعله ناضجًا في إنسانيّته. ولذا سمّى القدّيس توما الأكوينيّ العمل كخير للإنسان “خيرًا شاقًّا”. فهو خير “مفيد، ويُنعم به، ولائق” وبهذه الصفة يتناسب وكرامة الإنسان. فهو ليس فقط يحوّل الطبيعة، ويجعلها ملائمة لضروراته، بل أيضًا يحقّق ذاته كإنسان، وبمعنى ما “يصبح أكثر إنسانًا”، هذا هو البعد الأخلاقي لكلّ عمل (راجع “ممارسة العمل”، 9).
10. نصلّي كي يبارك الله حبريّة Opus Dei في يوبيلها الفضي ويبارك أعضائها ورسالتها لمجده تعالى وخير الكنيسة وتقديس النفوس. آمين.