أصدرت هيئة محلفين في محكمة إحدى دوائر فلوريدا بقضية محمد تاتليجي ضد أوغور تاتليجي، حكماً بالإجماع بمنح محمد تاتليجي 740 مليون دولار أمريكي في الدعوى التي رفعها بتهمة التشهير على الإنترنت والخسائر التجارية ذات الصلة، فيما يُعتبر أعلى حكم في فلوريدا وأحد أكبر التعويضات في الولايات المتحدة لعام 2019.
وفيما يبدو ظاهرياً على أنّه قضية تشهير، إلا أن الخلاف بين الأخوين تاتليجي اندلع عام 2009، عقب وفاة محمد صالح تاتليجي، وهو أحد أقطاب قطاع العقارات في تركيا ووالد الأخ غير الشقيق. ويُوصف نزاع الميراث بين محمد تاتليجي وأوغور تاتليجي بأنّه أكبر وأشنع نزاعات الميراث في تركيا على الإطلاق.
وعند رفع الدعوى، لم يتلقَّ أوغور تاتليجي إخطاراً بالدعوى القضائية في فلوريدا ولم يكن مشاركاً فيها. بعد مرور عام على ذلك، قررت القاضية جانيس بروستاريس كيسير المسؤولة عن القضية، إحالة القضية للمحاكمة بشأن المبلغ الذي ادّعى محمد تاتليجي أنه يستحقه، وفي ظلّ غياب أوغور تاتليجي، انتقلت القضية إلى المحاكمة. وخلال سير المحاكمة، أقنع المحامي جيريمي دي فرايدمان هيئة المحلفين بأن المواقع التي يُزعم صلتها بأوغور تاتليجي تسببت بخسائر تجارية لمشروع عقاري لموكله محمد تاتليجي يُعرف باسم مشروع التعايش “كو-إكزيست بروجكت”.
واعتمد القاضي حكم هيئة المحلفين بمنح 740 مليون دولار أمريكي في 8 يناير 2020 باعتباره حكم القضية.
الادعاء بالاحتيال على المحكمة
هل يمكن الحصول على حكم بنحو ثلاثة أرباع مليار دولار أمريكي من خلال قضية احتيال؟ قد يبدو الأمر صادماً، لكنه محتمل.
لاحقاً، احتجّ أوغور تاتليجي على الحكم وقدم تقريراً خبيراً لدعم مزاعمه من خلال خبير تكنولوجيا المعلومات البارز إليوت زيمرمان. وأعاد فتح القضية للطعن في صحة الحكم وأكد أن الحكم بمنح 740 مليون دولار أمريكي استُصدِر من خلال تقديم وثائق مزورة وشهادة زور واحتيال على المحكمة. وشملت ادعاءاته أخيه غير الشقيق محمد تاتليجي ومحامي أخيه غير الشقيق، جيريمي دي فرايدمان من مجموعة “داونز لو جروب” القانونية، لأنه قيل إن جيريمي دي فرايدمان متورط بشكل وثيق في الإعداد لعملية الاحتيال على المحكمة.
وأظهرت تقارير خبير تكنولوجيا المعلومات البارز إليوت زيمرمان أنّ المواقع التي زُعِم أنّها تدمّر سمعة مشروع التعايش “كو-إكزيست بروجكت” التابع لمحمد تاتليجي لم تكن موجودة حينها.
المفاضلة بين المحاكم وقضية مشابهة
قد يُفسّر مفهوم المفاضلة بين المحاكم سبب سماع نزاع بين شقيقين تركيين في محكمة ولاية فلوريدا.
ويَعِدُ نظام المفاضلة بين المحاكم الأمريكية المدعين بالوصول إلى قوانين موضوعية وإجرائية مواتية؛ ما يستقطب المدعين لرفع منازعاتهم في محاكم الولايات المتحدة. ويتمتّع المدعون، وربما محمد تاتليجي أيضاً، بتوقعات عالية نتيجة النهج المتحرر تجاه الولاية القضائية الشخصية للحصول على حكم مُواتٍ.
بالعودة إلى القضية، نُلاحظ أن محكمة فلوريدا لم تناقش مُطلقاً ما إذا اقتصر وقوع الأضرار المزعومة على تركيا فحسب وما إذا كانت لفلوريدا أي مصلحة في حل نزاع بين أشقاء. وفي قضية مماثلة، رفض قاضي أمريكي لمحكمة المقاطعة في نيويورك الدعوى قيد النظر في قضية أوينز ضد بنك “خلق”. واستندت المحكمة في قرارها إلى مبدأ “فوروم نون كونفينيس” (المحكمة غير الملائمة)؛ إذ أشارت إلى وجوب رفع الدعوى في تركيا. وذكرت المحكمة أن بنك “خلق” هو مؤسسة مالية تركية منظمة بموجب القانون التركي ويقع مقرها في تركيا. وعليه، طبقت المحكمة مبدأ المحكمة غير الملائمة وأحبطت المفاضلة بين المحاكم للمدعين الحريصين على رفع دعاوى في الولايات القضائية الملائمة للمدعي، مثل الولايات المتحدة.
مسألة الولاية القضائية الشخصية
يمثّل مفهوم المفاضلة بين المحاكم حالة تتولى فيها أكثر من محكمة واحدة حق ممارسة الولاية القضائية في قضية معينة. لكن لا بد في هذه الحالة أن نطرح السؤال عما إذا كانت المحكمة قد احتكمت إلى مبدأ الولاية القضائية لتولي قضية أوغور تاتليجي.
وتتضمن الدعوى القضائية التي رفعها محامي محمد تاتليجي ادعاءً وحيداً مفاده أن أوغور تاتليجي مواطن تركي و”يقوم بأعمال تجارية في فلوريدا”. لكن الملفت هو أن الملخص الرسمي لوقائع المحاكمة لا يضمّ أي وثيقة تدعم المزاعم التي تفيد بأن أوغور تاتليجي، وهو رجل أعمال تركي ومقيم في تركيا، يضطلع بأي أنشطة تجارية في فلوريدا. كذلك، لم تتم خلال الدعوى الإجابة عن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالعلاقات التي يتمتع بها أوغور تاتليجي في فلوريدا. كما أنه من غير الواضح ما إذا كان محمد تاتليجي قدم دليلاً يثبت تمتع أوغور تاتليجي بأي علاقات في فلوريدا، ما يسمح للمحكمة بممارسة مبدأ الولاية القضائية الشخصية.
الزعم بـ”إخفاء مكان وجود” يؤدي إلى توجيه مذكرة استدعاء بديلة
يبدو أن محمد تاتليجي ومحاميه جيريمي د. فريدمان قد اختارا حجة “ممارسة الأعمال التجارية في فلوريدا” لإرغام أوغور تاتليجي على الاستجابة لمذكرة الاستدعاء البديلة بموجب قوانين فلوريدا.
يسمح هذا الادعاء بتوجيه مذكرة الاستدعاء البديلة لغير المقيمين في حالات معينة، ويوفر بنداً متعلقاً بـ “إخفاء مكان وجود” المدّعى عليه؛ إلا أن البند المتعلق بـ”إخفاء مكان الوجود” صالح فقط للمقيمين في فلوريدا، في حين أن أوغور تاتليجي لم يكن مقيماً في ولاية فلوريدا.
في الواقع، يبدو أن لكل من أوغور تاتليجي ومحمد تاتليجي منزلاً في تركيا حيث يمكن تسليمهما مذكرة الاستدعاء بشكل قانوني.
ختاماً، يبدو أن المحكمة لم تنخدع بتصريحات محمد تاتليجي المريبة للغاية بشأن الولاية القضائية فحسب، إنما أيضاً بالادعاء بـ”إخفاء مكان الوجود”، وهي مزاعم يحتمل أنها قُدِّمت لتجنّب تسليم مذكرة الاستدعاء إلى أوغور تاتليجي، وبالتالي، مواصلة إجراءات المحاكمة غيابياً بحقه.
بتعبير آخر، كانت محكمة القاضية كيسير تفتقر فعلياً إلى حق ممارسة الولاية القضائية على أوغور تاتليجي منذ البداية. لكن يبدو أن التصريحات المضللة التي قدمها كلّ من محمد تاتليجي ومجموعة “داونز لو جروب” القانونية إلى محاكم فلوريدا نجحت في خداع محاكم مقاطعة بالم بيتش وإقناعها بممارسة مبدأ الولاية القضائية الشخصية على المدّعى عليه، أوغور تاتليجي، الذي يبدو أنه لم يستلم مذكرة استدعاء للمثول أمام المحكمة في هذه القضية.
وبذلك، لم تُتح الفرصة لأوغور تاتليجي بفضح الاحتيال الذي حصل في قاعة محكمة القاضية جانيس بروستاريس كيسير.
ومن جهة أخرى، كان عدم التمكن من تسليم مذكرة الاستدعاء من بين المزاعم الاحتيالية الأولى والعارية عن الصحة في قضية تاتليجي ضد تاتليجي. وما لبثت هذه المزاعم أن بدأت في التكدس ضدّ المدّعى عليه أوغور تاتليجي، الذي كان يجهل بالكامل وجود دعوى قضائية جارية ضده في فلوريدا.
ذِكر الرئيس الأمريكي جو بايدن في تغريدة ذات صلة بالقضية
قد يتفاجأ البعض بمعرفة أن هذه القضية ليست مجرد معركة بسيطة لتقاسم الميراث بين شقيقين. في الواقع، وصلت هذه القضية إلى المسؤولين الأمريكيين، بسبب الرأي العام التركي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل عام، والمحاكم الأمريكية بشكل خاص. وذكرت إحدى المستخدمات كلّاً من الرئيس الأمريكي جو بايدن، ونائبة الرئيس كامالا هاريس، والمحكمة العليا في فلوريدا في تغريدتها، معترضة على تدخّل الولايات المتحدة الأمريكية في الشؤون الداخلية التركية، وأشارت إلى أن قضية الأخوين تاتليجي يجب ألا تُحاكم في فلوريدا.
حاضر القضية ومستقبلها
مضى نحو عامين على صدور الحكم في قضية محمد تاتليجي ضد أوغور تاتليجي، ولم يُتَّخذ أي إجراء إنفاذ بشأن القضية حتى الآن. لكن هذا ليس مستغرباً. فإذا تمت محاولة إنفاذ الحكم الذي يفرض على أوغور تاتليجي أن يدفع 740 مليون دولار إلى محمد تاتليجي في تركيا، من المرجح أن ترفض المحاكم التركية إنفاذ الحكم، نظراً لأن المادة 54 من القانون الدولي والإجرائي الخاص تنص على أنه ينبغي استدعاء الشخص الذي يتعيّن عليه إنفاذ الحكم الصادر بحقه على النحو الواجب وحصوله على التمثيل القانوني المناسب أمام المحكمة الأجنبية.
وحده الوقت سيثبت ما إذا كان الحكم صالحاً في سجلات المحكمة أو إذا ما كان مناورة احتيالية على المحكمة. يبدو أنه سيكون علينا الانتظار لمعرفة الحكم الذي ستصدره محكمة ولاية فلوريدا بشأن صحة حكم قياسي مثير للجدل بقيمة 740 مليون دولار.