تتكشف يوما بعد يوم، نوايا المنظومة الحاكمة بتحميل خسائر الأزمة الاقتصادية والمالية إلى عامة المواطنين اللبنانيين، دفاعاً عن مصالح الحلقة الضيقة من تحالف المافيا والميليشيا. ويأتي ذلك عبر الامتناع عن القيام بأي خطوة اصلاحية تساهم في انتشال البلد من الأزمة. فمنع اقرار قانون الكابيتول كونترول والاكتفاء بتدابير من حاكم مصرف لبنان جاء ليسمح لبعض المحظيين من رجال السياسة والاعمال بتحويل أموالهم إلى الخارج في حين حجزت المصارف على أموال اللبنانيين دون أي مسوغ قانوني. وما رفض خطة التعافي التي طرحتها حكومة حسان دياب على علاتها من دون الاتيان بخطة بديلة وعرضها على الحوار الوطني إلا لمنع أي محاولة للمس برأس مال المصارف التي غامرت بأموال المودعين واساءت استخدامها لتحقق أرباحا كبيرة. ثم جاءت التعاميم التي صدرت عن مصرف لبنان بشكل استنسابي على مدى السنتين الماضيتين لتتسبب بزيادة مطردة في الكتلة النقدية (أي طبع العملة بمعنى أبسط) ففاقمت الانكماش والتضخم، وصولاً إلى الفصل الأخير والمتمثل بإعداد مشروع قانون موازنة الـ ٢٠٢٢.
إن خطورة هذا المشروع تكمن في:
1. غياب أي خطة متكاملة للتعافي وبالتالي أتى مشروع القانون ليكرس نهج السنوات الماضية باعتبار الموازنة أداة محاسبيةبحتة، لا كأداة اساسية في تحديد الخيارات الاقتصادية الكبرى للدولة خصوصا في ظل أدق مرحلة من تاريخ لبنان.
2. ضرب الاجور بالليرة اللبنانية وتكبيل القدرة الشرائية للشريحة الكبرى من اللبنانيين عبر فرض مطرد للضرائب والرسومبدل الغوص بإعادة النظر بالسياسة الضريبية والتوجه نحو الضرائب المباشرة التصاعدية التي تساعد عملية الانتاج علىحساب الريع، والبحث عن موارد جديدة مثل الضرائب والرسوم على استثمار الأملاك البحرية والنهرية، او ضبط المعابر الحدودية لتحسين الجباية.
3. ضرب مقومات العيش لموظفي القطاع العام والاسلاك العسكرية عبر انكار حقهم وحق المتقاعدين بإعادة جدولة رواتبهموالاكتفاء فقط ببعض المنح الانية على طريقة مساعدة المتسولين. علماً ان كتلة الأجور في القطاع العام بحاجة إلى إعادةهيكلة بحيث تتوزع بعدالة على الموظفين والمستخدمين بمختلف فئاتهم.
4. التغاضي عن أية أفعال جدية لإعادة النظر بالنفقات وخصوصاً من ناحية وقف الهدر المتمادي، بل ذهبت الموازنة لوقف اعتمادات النفقات الاستثمارية بالرغم من الحاجة الماسة لإعادة تفعيل الخدمات العامة، وفق رؤية وطنية على المديينالمتوسط والطويل تحدد وجهة الاستثمارات لاسيما في مجال الطاقة والاتصالات والنقل العام، كما تضع خطة للإنماءالاجتماعي.
5. اما أخطر ما جاء في مشروع الموازنة، فهو استسهال خرق الدستور والقوانين وانتهاك مبدأ فصل السلطات عبر محاولةاعطاء صلاحيات استثنائية للوزراء او للحكومة واستعمال الموازنة للقفز فوق العملية التشريعية والرقابية كمحاولة منحصلاحيات فوق العادة لتحديد اسعار متعددة للصرف او التفريق ما بين الودائع المصرفية او اضفاء سياسات قطاعية يجبان تقر في قوانين منفصلة.
اذاً هو استمرار للنهج المتمثل بضرب المقومات المعيشية للبنانيين وإضاعة الوقت وعدم استغلال الفرص للخروج من هذه الدوامة. ومن هنا يأتي ضرورة صياغة مشروع اقتصادي جديد يشكل رافعة للبنان المزدهر الذي نريد. مشروع يهدف الى:
1.تعزيز مبدأ المحاسبة عبر المضي في المسار القانوني الدولي لاسترجاع الأموال المحولة الى الخارج من قبل النافذين ما بعد ١٧ تشرين ٢٠١٩ والأموال المنهوبة جراء الفساد المالي والسياسي، كما استرجاع الأرباح الغير مشروعة التي تحققت من الهندسات المالية والفوائد الخيالية التي ضخمت زيفا الودائع بدولارات قيدية وليست حقيقية. وخاصة بين سنتي ٢٠١٤ و٢٠١٩ والتي اتسمت فترتها بتراكم العجز في ميزان المدفوعات.
2.تحديد المسؤوليات عن الخسائر ثم توزيعها بشكل عادل لثلاثة أطراف المصارف، الدولة، المودعين، كما إعادة هيكلة القطاع المصرفي كي يشكل قاطرة للنمو والاستثمار والانتاج وداعما للاقتصاد الحقيقي على عكس المضاربات السائدة في الماضي.
3. تفعيل القطاعات المنتجة لخلق فرص للعمل اللائق وتحسين الأوضاع المعيشية للسكان واعتماد استراتيجية وطنية للحماية الاجتماعية وإعادة بناء النظامين الصحي والتربوي اللذان يشكلان ميزة تفاضيلية طالما تميز بها لبنان في المنطقة.